فصل: فصل في الاستئجار على منفعة محرمة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وسئل ـ رحمه الله ـ عمن استأجر مكانا من مباشريه مدة معينة، بأجرة معينة، ولو أراد الإقالة ما أقالوه إلا بانقضاء المدة‏.‏ فهل لهم أن يقبلوا عليه زيادة قبل أن تنقضي مدة الإجارة‏؟‏

فأجاب‏:‏

إن كانت صحيحة فهي لازمة من الطرفين باتفاق المسلمين، وليس للمؤجر أن يخرج المستأجر؛ لأجل زيادة حصلت عليه، والحال هذه، ولا يقبل عليه زيادة والحال هذه، باتفاق الأئمة‏.‏

وإن كانت الإجارة فاسدة لم يجز لناظر الوقف أن يمكن المستأجر من تسلم المكان بمثل هذه الإجارة، ولا له أن يمنعه من الخروج إذا أراد، ولا يملك أن يطالبه بالأجرة المسماة في العقد، وكان دخول الناظر في مثل ذلك قادحا في عدالته وولايته؛ فإنه يجب عليه باتفاق الأئمة ألا يؤجر المكان إلا إجارة صحيحة في الشرع، ويجب عليه باتفاق الأئمة إذا أجره كذلك ألا يقبل عليه الزيادة على المستأجر، ولا يخرجه لأجلها‏.‏

وأما الذي زاد على المستأجر، فلو زاد عليه بعد ركون /المؤجر إلى إجارته، لكان قد سام على سوم أخيه، ولو زاد عليه بعد العقد وإمكان الفسخ، فهو مثل الذي يبيع على بيع أخيه‏.‏ وكلاهما حرام بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مذهب الأئمة الأربعة‏.‏ فكيف إذا زاد عليه مع وجود الإجارة الشرعية‏؟‏‏!‏ فإن هذا الزائد عاص آثم ظالم، مستحق للتعزير والعقوبة، ومن أعانه على ذلك فقد أعانه على الإثم والعدوان، وإشهاد المستأجر على نفسه دون إشهاد المؤجر لا أثر له في ذلك، فإن العقد لا يفتقر إلى إشهاد، بل يصح بدون الشهادة‏.‏

وقول الناظر له‏:‏ أشهد على نفسك مع إشهاد المستأجر، هو إجارة شرعية، بل بعد قول الناظر له‏:‏ أشهد على نفسك، ليس لأحد أن يزيد عليه، وعلى الناظر ألا يؤجرها حتي يغلب على ظنه أنه ليس هناك من يزيد عليه، وعليه أن يشهر المكان عند أهل الرغبات الذين جرت العادة باستئجارهم مثل ذلك المكان‏.‏ فإذا فعل ذلك فقد آجره المثل، وهي الإجارة الشرعية‏.‏

فـإن حاباه بعض أصدقائه، أو بعض مـن له عنده يـد، أو غـيرهم، فأجـره بدون أجـرة المثل، كان ظالما ضامنا لما نقص أهل الوقف من أجرة المثل‏.‏ ولو تغيرت أسعار العقار بعد الإجارة الشرعية لم يملك الفسخ بذلك، فإن هذا لا ينضبط، ولا يدخل في التكليف‏.‏ والمنفعة بالنسبة إلى الزمان قد تكون مختلفة، لا مماثلة؛ فتكون قيمتها في الشتاء /أكثر من قيمتها في الصيف، وبالعكس‏.‏

ومن استأجره حولا فإنه يحتمل الزيادة في زمان بعض الكري لأجل ما يحصل من ارتفاعه في الزمان الآخر، فليس لأحد أن يزيد عليه من ارتفاع سعر ذلك المكان، ولو قدر أن الإجارة انفسخت في بعض الأزمنة لبسطت القيمة في مثل ذلك بالقيمة، لا بأجزاء الزمان‏.‏ فيقال‏:‏ كم قيمته في وقت الصيف‏؟‏ ويقسم الأجرة على وقت القيمة، ويحسب لكل زمان من الأجرة بقدر قيمته‏.‏

والواجب على الناظر أن يفعل مصلحة الوقف في إجارة المكان مسانهة، أو مشاهرة، أو موايمة‏.‏ فإن كانت المصلحة أن يؤجره يوما فيوما، وكلما مضي يوم تمكن المستأجر من الإخلاء، والمؤجر من أمره به فعل ذلك‏.‏ وإن كانت المصلحة أن يؤجره مشاهرة وعند رأس الشهر يتمكن المستأجر من الإخلاء، والمؤجر من أمره به فعل ذلك‏.‏ وأما إن كانت المصلحة مسانهة، فقد فعل ما عليه، وليس له أن يخرجه قبل انقضاء مدة الإجارة؛ لأجل الزيادة‏.‏ وما ذكره بعض متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي والإمام أحمد من التفريق بين أن تكون الزيادة بقدر الثلث، أو أقل، فهو قول مبتدع لا أصل له عن أحد من الأئمة؛ لا الشافعي، ولا أحمد، ولا غيرهما، لا في الوقف ولا في غيره‏.‏

/

 وسئل ـ رحمه الله ـ عمن استأجر حانوتا من مباشري الأوقاف مدة معينة، بأجرة معينة، وتسلم الحانوت، وانتفع به، وقبضوا منه ما استحق لهم من الأجرة، ولو أراد الإقالة ما أقالوه إلا بانقضاء المدة‏.‏ فهل لهم أن يقبلوا عليه زيادة ممن زاد عليه قبل أن تنقضي مدة إجارته‏؟‏ أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

ليس لهم أن يقبلوا الزيادة عليه ـ والحال هذه ـ سواء كان هذا وقفا، أو ملك يتيم، أو غير ذلك‏.‏

ومن استجاز أن يقبل الزيادة، ولا يمكن المستأجر الخروج إذا أراد، فقد خالف إجماع المسلمين؛ فإن الإجارة إن كانت فاسدة، أو غير جائزة، كان لكل من المؤجر والمستأجر تركها‏.‏ وإن كانت صحيحة لازمة، لم يكن لواحد منهما فسخها بغير سبب يوجب ذلك؛ لأجل الزيادة ونحوها‏.‏ فأما أن تجعل جائزة من جانب المؤجر، لازمة من جانب المستأجر، فهذا خلاف إجماع المسلمين‏.‏

وأيضا، فإن زعم الناظر أنه لم يؤجر هذا المكان، أو أجره إجارة فاسدة، كان ذلك قادحا في نظره، وعدالته؛ لأنه إقرار منه بأنه يسلم /العين الموقوفة إلى من لا يجوز تسليمها اليه، وتمكينه بغير أجرة مسماة؛ ولا نزاع أن الناظر ليس له ذلك‏.‏

وأيضا، فإن هذا إقرار منه بأن المستأجر لا تجب عليه الأجرة المسماة؛ وإنما يجب عليه أجرة المثل‏.‏ وأجرة المثل كثيرا ما تكون دون المسماة، فيكون ذلك إقرارا على نفسه بأنه ضامن لما فوته على أهل الوقف‏.‏ ولو ادعي الناظر أن الإجارة كانت فاسدة، وادعي المستأجر أنها صحيحة لكان القول قول من يدعي الصحة؛ إذ الأصل في عقود المسلمين الصحة‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رضي الله عنه ـ عن رجل وزان بالقبان، ويأخذ أجرته ممن يزن له‏.‏ فهل يجوز له ذلك‏؟‏ وهل الأجرة حلال أم حرام‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، الوزن بالقبان الصحيح كالوزن بسائر الموازين، إذا وزن الوازن بهذه الآلات الصحيحة بالقسط جاز وزنه، وإن كانت الآلة فاسدة، والوازن باخسا كان من الظالمين المعتدين، وإذا وزن بالعدل، وأخذ أجرته ممن عليه الوزن، جاز ذلك‏.‏

/

 وسئل عن رجل يختم القماش، وهو ساكن عنده رجل، فإذا ادعي الرجل أن الأجرة من غير كسبه‏.‏ هل يجوز أن يأخذها‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما إذا كان له جهة أخرى حلال، وذكر أنه يعطي الأجرة منها، وغلب على الظن صدقه أن يأخذ، وإن لم يغلب على الظن كذبه، جاز تصديقه في ذلك، إذا لم يعرف كذبه‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن أجرة الحجام‏.‏ هل هي حرام‏؟‏ وهل ينجس ما يصنعه بيده للمأكل‏؟‏ وهل النبي صلى الله عليه وسلم أعطي الحجام أجره‏؟‏ وما جاء فيه من التحريم‏؟‏ وهل ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏شفاء أمتي في ثلاث‏:‏ آية من كتاب الله، أو لعقة من عسل، أو كأس من حجام‏)‏، فكيف حرم هذا، ووصف بالتداوي هنا، وجعله شفاء‏؟‏‏!‏

/فأجاب‏:‏

الحمد لله، أما يده إذا لم يكن فيها نجاسة، فهي كسائر أيدي المسلمين، ولا يضرها تلويثها بالدم إذا غسلها، كما لا يضرها تلوثها بالخبث حال الاستنجاء إذا غسلها بعد ذلك‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال‏:‏ احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطي الحجام أجره‏.‏ولو كان سحتا لم يعطه إياه‏.‏وفي الصحيحين عن أنس ـ

 وسئل عن كسـب الحجام ـ قال‏:‏ احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حجمه أبو طيبة، فأمر له بصاعين من طعام، وكلم أهله فخففوا عنه‏.‏ ولا ريب أن الحجام إذا حجم يستحق أجرة حجمه، عند جماهير العلماء، وإن كان فيه قول ضعيف بخلاف ذلك‏.‏

وقد أرخص النبي صلى الله عليه وسلم له أن يعلفه ناضحه، ويطعمه رقيقه، كما في حديث محصن أن أباه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خراج الحجام، فأبي أن يأذن له، فلم يزل به حتي قال‏:‏ ‏(‏أطعمه رقيقك، واعلفه ناضحك‏)‏ رواه أبو حاتم، وابن حبان في صحيحه، وغيره‏.‏

واحتج بهذا أكثر العلماء أنه لا يحرم، وإنما يكره للحر تنزيها‏.‏ قالوا‏:‏ لو كان حراما لما أمره أن يطعمه رقيقه ؛ لأنهم متعبدون، /ومن المحال أن يأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يطعم رقيقه حراما‏.‏

ومنهم من قال‏:‏ بل يحرم؛ لما روي مسلم في صحيحه عن رافع بن خديج ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كسب الحجام خبيث، وثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث‏)‏ وفي الصحيحين عن ابن أبي جحيفة قال‏:‏ رأيت أبي اشتري حجاما فأمر بمحاجمه فكسرت، فسألته عن ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم‏.‏ قال هؤلاء‏:‏ فتسميته خبيثا يقتضي تحريمه، كتحريم مهر البغي، وحلوان الكاهن‏.‏

قال الأولون‏:‏ قد ثبت عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏من أكل من هذين الشجرتين الخبيثتين، فلا يقربن مسجدنا‏)‏ فسماهما خبيثتين، بخبث ريحهما، وليستا حرامًا‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏لا يصلين أحدكم، وهو يدافع الأخبثين‏)‏ أي‏:‏ البول، والغائط‏.‏ فيكون تسميته خبيثًا لملاقاة صاحبه النجاسة؛ لا لتحريمه؛ بدليل أنه أعطي الحجَّام أجره، وأذن له أن يطعمه الرقيق، والبهائم‏.‏ ومهر البغي، وحلوان الكاهن، لا يستحقه، ولا يطعم منه رقيق، ولا بهيمة‏.‏ وبكل حال فحال المحتاج اليه ليست كحال المستغني عنه، كما قال السلف‏:‏ كسب فيه بعض الدناءة خير من مسألة الناس‏.‏

ولهذا لما تنازع العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن، ونحوه،/ كان فيه ثلاثة أقوال في مذهب الإمام أحمد، وغيره‏:‏ أعدلها أنه يباح للمحتاج‏.‏ قال أحمد‏:‏ أجرة التعليم خير من جوائز السلطان، وجوائز السلطان خير من صلة الإخوان‏.‏

وأصول الشريعة كلها مبنية على هذا الأصل‏:‏ أنه يفرق في المنهيات بين المحتاج وغيره، كما في المأمورات؛ ولهذا أبيحت المحرمات عند الضرورة، لاسيما إذا قدر أنه يعدل عن ذلك إلى سؤال الناس‏.‏ فالمسألة أشد تحريما؛ ولهذا قال العلماء‏:‏ يجب أداء الواجبات، وإن لم تحصل إلا بالشبهات، كما ذكر أبو طالب، وأبو حامد‏:‏ أن الإمام أحمد سأله رجل، قال‏:‏ إن ابنا لي مات، وعليه دين، وله ديون أكره تقاضيها‏.‏ فقال له الإمام أحمد‏:‏ أتدع ذمة ابنك مرتهنة‏؟‏ يقول‏:‏ قضاء الدين واجب، وترك الشبهة لأداء الواجب هو المأمور‏.‏

ولهذا اتفق العلماء على أنه يرزق الحاكم وأمثاله عند الحاجة، وتنازعوا في الرزق عند عدم الحاجة، وأصل ذلك في كتاب الله في قوله في ولي اليتيم‏:‏ ‏{‏وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏ فهكذا يقال في نظائر هذا؛ إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها‏.‏ والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما، ودفع شر الشرين، وإن حصل أدناهما‏.‏ وقد جاء في الحجامة أحاديث كثيرة‏.‏ وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم /أنه قال‏:‏ ‏(‏شفاء أمتي في ثلاث‏:‏ شربة عسل، أو شرطة محجم، أو كية نار، وما أحب أن أكتوي‏)‏ والتداوي بالحجامة جائز بالسنة المتواترة وباتفاق العلماء‏.‏

 وسئل عن امرأة منقطعة أرملة، ولها مصاغ قليل تكريه، وتأكل كراه‏.‏ فهل هو حلال‏؟‏ أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين، هذا جائز عند أبي حنيفة، والشافعي، وغيرهما من أهل العلم‏.‏ وقد كرهه مالك وأحمد، وأصحاب مالك، وكثير من أصحاب أحمد‏.‏ وهذه كراهة تنزيه، لا كراهة تحريم‏.‏

وهذا إذا كانت بجنسه، وأما بغير جنسه فلا بأس‏.‏ فهذه المرأة إذا أكرته وأكلت كراه لحاجتها لم تنه عن ذلك، لكن عليها الزكاة عند أكثر العلماء؛ كأبي حنيفة، ومالك، والإمام أحمد‏.‏

وهذا إن أكرته لمن تزين لزوجها، أو سيدها، أو لمن يحضر به حضورا مباحا، مثل أن يحضر عرسا يجوز حضوره‏.‏

فأما إن أكرته لمن تزين به للرجال الأجانب، فهذا لا يجوز‏.‏ /وأما إن أكرته لمن تزين به لفعل الفاحشة، فهذا أعظم من أن تسأل عنه‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَعَاوَنُواْ على الْبرِّ وَالتَّقْوَي وَلاَ تَعَاوَنُواْ على الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏ ‏.‏

ولا يجوز أن يعان أحد على الفاحشة، ولا غيرها من المعاصي؛ لا بحلية، ولا لباس، ولا مسكن، ولا دابة، ولا غير ذلك؛ لا بكري، ولا بغيره‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن الشماعين الذين يكرون الشمع، ثم إنهم يزنونه أولا، فإذا رجع وزنوه ثانيا، وأخذوا نقصه‏.‏ فهل يكره ذلك‏؟‏ وإذا كسر الشمع، فهل يلزم الذي اكتراه‏؟‏ أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما الشمع إذا أعطاه لمن يوقده، وقال‏:‏ كلما نقص منه أوقية بكذا، فإن هذا جائز‏.‏ وليس هذا من

باب الإجارات، ولا

باب البيع اللازم؛ فإن البيع اللازم لابد أن يكون المبيع فيه معلوما؛ بل هذا معاوضة جائزة، لا لازمة، كما لو قال‏:‏ اسكن في هذه الدار كل يوم بدرهم، ولم يوقف أجلا، فإن هذا جائز في أظهر قولي العلماء‏.‏

فمسألة الأعيان نظير هذه المسألة في المنافع، وهو إذن في الإتلاف /على وجه الانتفاع بعوض، كما لو قال‏:‏ ألق متاعك في البحر وعلى ثمنه؛ فإن هذا جائز بلا ريب؛ لأن ذلك مما ينتفع به ملتزم الثمن للتخفيف، كما ينتفع بلزوم الثمن هنا، فإيقاد الشمع بالكراء جائز إذا علم توقيده؛ لكن لابد أن يكون الإيقاد في أمر مباح، لا محظور‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن زركشي استعمل عنده منديل، فلما فرغ أذنــوا له في غسله، فعدت عليه أمة الصانع في صقل الذهب، فتقرض المنديل‏.‏ فهل يجب عليه غرامة المنديل‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، إذا كانت الأمة قد جنت على المنديل، فالجناية تتعلق برقبتها، فعلى مالكها إما أرش الجناية، وإما تسليمها لتستوفي الجناية من رقبتها، وسواء كانت الجناية منها، أو من سيدها، أو غيرهما، فليس على الجاني ما أنفقوا على المنديل، وليس به هذا القرض، ويقوم به بعد حصوله، فيضمنون ما نقصت القيمة، وإن تراضوا بأن يأخذ الصانع المنديل، ويعطيهم قيمته التي تساوي في السوق قبل القرض جاز ذلك، وليس عليه أن يعطيهم جديدا خيرا منه‏.‏

/

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن إجارة الجواميس، يستأجرها عاما واحدا مطلقا، وغرضه لبنها، ويستعملها لذلك‏.‏ وإنما جعلوه مطلقا أنه يستعملها والقصد اللبن‏.‏ والغنم أيضا هل تجوز إجارتها للبن‏؟‏ وهل يجوز أن تعطي لمن يرعاها بصوفها ولبنها‏؟‏ أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، هذه المسألة فيها نزاع معروف بين السلف والعلماء، وكذلك في اشتراء اللبن مدة، مقدارا معينا من ذلك اللبن، يأخذه أقساطا من هذه الماشية‏.‏ والمنع من ذلك هو المعروف في مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد‏.‏

قال هؤلاء‏:‏ هذا بيع ما لم ير، ولم يوصف، بل بيع معدوم لم يوجد‏.‏ والإجارة إنما تكون على المنافع دون الأعيان، وهذه أعيان‏.‏

وقال هؤلاء‏:‏ إجارة الظئر للرضاع على خلاف القياس، جازت للحاجة‏.‏ وتنازع هؤلاء في هذه الإجارة‏.‏ فقيل‏:‏ إن المعقود عليه هو الخدمة، والرضاع تابع، وهذا قول ابن عقيل وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ بل /المعقود عليه هو المقصود بالعقد، وهو اللبن‏.‏ وهو قول القاضي أبي يعلى، وغيره‏.‏

وأما الرخصة في ذلك في الجملة، فهو مذهب مالك، وغيره‏.‏ وهؤلاء قد يسمون إجارة الظئر للرضاع تبعا للبن؛ لأن الظئر تبع اللبن الذي لم يخلق بعد؛ بناء على أنه عقد على الأعيان، والعقد على العين هو من باب البيوع‏.‏ والنزاع في ذلك لفظي؛ فإنها داخلة في مسمي البيع العام، المتناول للأعيان والمنافع، والموجود والمعدوم، وليست داخلة في مسمي البيع الخاص، الذي يختص بالموجود من الأعيان‏.‏

وكذلك السلف تنازعوا‏:‏ هل هو من البيع‏؟‏ على القولين‏.‏ وهل يكون بلفظ البيع سلفا‏؟‏ على وجهين في مذهب أحمد وغيره‏.‏ حتي قال من لم يجعله بيعا‏:‏ إن السلف الحال يجوز بلفظ البيع، دون لفظ السلم‏.‏ والصحيح أن العقود إنما يعتبر فيها معانيها لا بمجرد اللفظ‏.‏

والصواب‏:‏ أن الإجارة المسؤول عنها جائزة؛ فإن الأدلة الشرعية الدالة على الجواز بعوضها ومقايستها تتناول هذه الإجارة، وليس من الأدلة ما ينفي ذلك؛ فإن قول القائل‏:‏ إن إجارة الظئر على خلاف القياس؛ كلام فاسد‏.‏ فإنه ليس في كتاب الله إجارة منصوص عليها في شريعتنا إلا هذه الإجارة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 6‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏وَعلى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ ، والسنة وإجماع الأمة دلا على جوازها وإنما تكون مخالفة للقياس لو عارضها قياس نص آخر، وليس في سائر النصوص وأقيستها ما يناقض هذه‏.‏

وقول القائل‏:‏ الإجارة إنما تكون على المنافع دون الأعيان، ليس هو قول لله، ولا لرسوله، ولا الصحابة، ولا الأئمة؛ وإنما هو قول قالته طائفة من الناس‏.‏

فيقال لهؤلاء‏:‏ لا نسلم أن الإجارة لا تكون إلا على المنافع فقط؛ بل الإجارة تكون على ما يتجدد ويحدث ويستخلف بدله، مع بقاء العين، كمياه البئر، وغير ذلك، سواء كان عينا أو منفعة، كما أن الموقوف يكون ما يتجدد، وما تحدث فائدته شيئا بعد شيء، سواء كانت الفائدة منفعة، أو عينا؛ كالتمر واللبن، والماء النابع‏.‏

وكذلك العارية‏.‏ وهو عما يكون الانتفاع بما يحدث، ويستخلف بدله‏.‏ يقال‏:‏ أفقر الظهر، وأعري النخلة، ومنح الناقة، فإذا منحه الناقة يشرب /لبنها ثم يردها، أو أعراه نخلة يأكل ثمرها، ثم يردها، وهو مثل أن يفقره ظهرا يركبه، ثم يرده‏.‏

وكذلك إكراء المرأة أو طير، أو ناقة، أو بقرة، أو شاة يشرب لبنها مدة معلومة، فهو مثل أن يكون دابة يركب ظهرها مدة معلومة‏.‏

وإذا تغيرت العادة في ذلك، كان تغير العادة في المنفعة يملك المستأجر؛ إما الفسخ، وإما الأرش‏.‏ وكذلك إذا أكراه حديقة يستعملها حولا، أو حولين، كما فعل عمر بن الخطاب لما قبل حديقة أسيد بن الحضير ثلاث سنين، وأخذ المال وقضي به دينا كان عليه‏.‏

وإذا كان المستأجر هو الذي يقوم على هذه الدواب، فهو إجارة، وهو أولي بالجواز من إجارة الظئر‏.‏

وأما إذا كان صاحب الماشية هو الذي يعلفها ويسقيها ويؤويها، وطالب اللبن لا يعرف إلا لبنها، وقد استأجرها ترضع سخالا له، فهو مثل إجارة الظئر‏.‏ وإذا كان ليأخذ اللبن هو فهو يشبه إجارة الظئر، للرضاع المطلق، لا لإرضاع طفل معين‏.‏ وهذا قد يسمي بيعا، ويسمي إجارة‏.‏ وهو نزاع لفظي‏.‏

وإذا قيل‏:‏ هو بيع معدوم‏.‏ قيل‏:‏ نعم، وليس في أصول الشرع ما ينهي عن بيع كل معدوم، بل المعدوم الذي يحتاج إلى بيعه، وهو معروف في العادة، يجوز بيعه، كما يجوز بيع الثمرة بعد بدو صلاحها؛ فإن ذلك يصح عند جمهور العلماء، كما دلت عليه السنة، مع أن الأجزاء التي تخلق بعد معدومة، وقد دخلت في العقد‏.‏ وكذلك /يجوز بيع المقاثي وغيرها على هذا القول‏.‏ والله أعلم‏.‏ والحمد لله‏.‏

 وسئل عن مريض طلب من رجل أن يطببه، وينفق عليه ففعل‏.‏ فهل للمنفق أن يطالب المريض بالنفقة‏؟‏

فأجاب‏:‏

إن كان ينفق طالبا للعوض لفظا، أو عرفا، فله المطالبة بالعوض‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل عن رجل ضرير كتبت عليه إجارة‏.‏ فهل تصح إجارته‏؟‏

فأجاب‏:‏

يصح استئجار الأعمي، واشتراؤه عند جمهور العلماء؛ كمالك، وأبي حنيفة، والإمام أحمد في المشهور عنه‏.‏ ولابد أن يوصف له المبيع، والمستأجر‏.‏ فإن وجده بخلاف الصفة، فله الفسخ‏.‏

/

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل ليس له ما يكفيه، وهو يصلي بالأجرة‏.‏ فهل يجوز ذلك‏؟‏ أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الاستئجار على الإمامة لا يجوز في المشهور من مذهب أبي حنيفة، ومالك، والإمام أحمد‏.‏

وقيل‏:‏ يجوز، وهو مذهب الشافعي، وروايـة عن الإمام أحمد، وقول في مذهب مالك‏.‏ والخلاف في الأذان أيضا، لكن المشهور من مذهـب مالك أن الاســـتئجار يجوز على الأذان وعلى الإمامة معه، لا منفـــردة‏.‏ وفي الاستئجار على هذا ونحـــوه كالتعليم، قول ثالث في مذهب أحمد، وغيره‏:‏ أنه يجوز مع الحاجة، ولا يجوز بدون الحاجة‏.‏ والله أعلم‏.‏

/

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل توفي وأوصى أن يصلى عنه بدراهم‏؟‏

فأجاب‏:‏

صلاة الفرض لا يفعلها أحد عن أحد لا بأجرة، ولا بغير أجرة، باتفاق الأئمة، بل لا يجوز أن يستأجر أحدا ليصلي عنه نافلة باتفاق الأئمة؛ لا في حياته، ولا في مماته‏.‏ فكيف من يستأجر ليصلي عنه فريضة‏.‏

وإنما تنازع العلماء فيما إذا صلى نافلة بلا أجرة، وأهدي ثوابها إلى الميت‏.‏ هل ينفعه ذلك‏؟‏ فيه قولان للعلماء‏.‏

ولو نذر الميت أن يصلي فمات‏.‏ فهل تفعل عنه الصلاة المنذورة‏؟‏ على قولين، هما روايتان عن الإمام أحمد‏.‏

لكن هذه الدراهم التي أوصى بها يتصدق بها عنه، ويخص بالصدقة أهل الصلاة، فيكون للميت أجر‏.‏ وكل صلاة يصلونها، ويستعينون عليها بصدقته، يكون له منها نصيب من غير أن ينقص من أجر المصلي شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من فطر صائما فله مثل أجره‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏من جهز غازيا فقد غزا‏)‏‏.‏

/

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن رجل من أهل العلم، قصد لأن يقرأ عليه شيء من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وغيرها من العلوم الشرعية، فامتنع من إقرائها إلا بأجرة‏.‏ فقيل له‏:‏ قد روي من هدي السلف وأئمة الهدي تعليم العلم ابتغاء لوجه الله الكريم ما لا خفاء به على عاقل، وهذا مما لا ينبغي‏.‏ فقال‏:‏ أقرئ العلم بغير أجرة‏؟‏‏!‏ يحرم على ذلك، فكلامه صحيح‏؟‏ أم باطل‏؟‏ وهل هو جاهل بقوله‏:‏ إنه معذور‏.‏ وهل يجوز له أخذ الأجرة على تعليم العلم النافع‏؟‏ أم يكره له ذلك‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، أما تعليم القرآن والعلم بغير أجرة فهو أفضل الأعمال، وأحبها إلى الله، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، ليس هذا مما يخفي على أحد ممن نشأ بديار الإسلام‏.‏ والصحابة والتابعون وتابعو التابعين، وغيرهم من العلماء المشهورين عند الأمة بالقرآن والحديث والفقه،إنما كانوا يعلمون بغير أجرة،ولم يكن فيهم من يعلم بأجرة أصلا‏.‏

‏(‏فإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما،/ وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر‏)‏‏.‏ والأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ إنما كانوا يعلمون العلم بغير أجرة، كما قال نوح عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَمَا أَسْأَلُكُمْ عليه مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا على رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 109‏]‏ ، وكذلك قال هود وصالح وشعيب ولوط وغيرهم‏.‏ وكذلك قال خاتم الرسل‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عليه مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 86‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عليه مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏57‏]‏ ‏.‏

وتعليم القرآن والحديث والفقه وغير ذلك بغير أجرة لم يتنازع العلماء في أنه عمل صالح، فضلا عن أن يكون جائزا، بل هو من فروض الكفاية؛ فإن تعليم العلم الذي بينه فرض على الكفاية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏بلغوا عني ولو آية‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏ليبلغ الشاهد الغائب‏)‏‏.‏

وإنما تنازع العلماء في جواز الاستئجار على تعليم القرآن، والحديث والفقه‏.‏ على قولين مشهورين، هما روايتان عن أحمد‏.‏

إحداهما ـ وهو مذهب أبي حنيفة وغيره ـ‏:‏ أنه لا يجوز الاستئجار على ذلك‏.‏

والثانية ـ وهو قول الشافعي ـ‏:‏ أنه يجوز الاستئجار‏.‏

وفيها قول ثالث في مذهب أحمد‏:‏ أنه يجوز مع الحاجة؛ دون الغني، كما قال تعالى في ولي اليتيم‏:‏ ‏{‏وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏ ‏.‏

ويجوز أن يعطي هؤلاء من مال المسلمين على التعليم، كما يعطي الأئمة والمؤذنون والقضاة، وذلك جائز مع الحاجة‏.‏

وهل يجوز الارتزاق مع الغنى‏؟‏ على قولين للعلماء‏.‏ فلم يقل أحد من المسلمين‏:‏ إن عمل هذه الأعمال بغير أجر لا يجوز‏.‏

ومن قال‏:‏ إن ذلك لا يجوز؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ لكن إن أراد أنه فقير متي عَلَّم بغير أجر عجز عن الكسب لعياله، والكسب لعياله واجب عليه، متعين، فلا يجوز له ترك الواجب المتعين، لغير متعين، واعتقد مع ذلك جواز التعليم بالأجرة مع الحاجة، أو مطلقا؛ فهذا متأول في قوله، لا يكفر بذلك، ولا يفسق باتفاق الأئمة؛ بل إما أن يكون مصيبا أو مخطئا‏.‏

ومأخذ العلماء في عدم جواز الاستئجار على هذا النفع‏:‏ أن هذه الأعمال يختص أن يكون فاعلها من أهل القرب بتعليم القرآن، والحديث، والفقه، والإمامة، والأذان؛ لا يجوز أن يفعله كافر، ولا يفعله إلا مسلم،بخلاف النفع الذي يفعله المسلم والكافر؛ كالبناء، والخياط، والنسج، ونحو ذلك‏.‏ وإذا فعل العمل بالأجرة لم يبق عبادة لله، فإنه يبقي مستحقـا بالعـوض، معمولا لأجلـه‏.‏ والعمـل إذا عمـل للعـوض لـم / يبق عبادة؛ كالصناعات التي تعمل بالأجرة‏.‏

فمن قال‏:‏ لا يجوز الاستئجار على هذه الأعمال، قال‏:‏ إنه لا يجوز إيقاعها على غير وجه العبادة لله، كما لا يجوز إيقاع الصلاة والصوم والقراءة على غير وجه العبادة لله، والاستئجار يخرجها عن ذلك‏.‏

ومن جوز ذلك قال‏:‏ إنه نفع يصل إلى المستأجر، فجاز أخذ الأجرة عليه؛ كسائر المنافع‏.‏ قال‏:‏ وإذا كانت العبادة في هذه الحال، لا تقع على وجه العبادة، فيجوز إيقاعها على وجه العبادة، وغير وجه العبادة؛ لما فيها من النفع‏.‏

ومن فرق بين المحتاج وغيره ـ وهو أقرب ـ قال‏:‏ المحتاج إذا اكتسب بها أمكنه أن ينوي عملها لله، ويأخذ الأجرة ليستعين بها على العبادة؛ فإن الكسب على العيال واجب أيضا، فيؤدي الواجبات بهذا؛ بخلاف الغني؛ لأنه لا يحتاج إلى الكسب، فلا حاجة تدعوه أن يعملها لغير الله؛ بل إذا كان الله قد أغناه، وهذا فرض على الكفاية، كان هو مخاطبا به، وإذا لم يقم إلا به كان ذلك واجبا عليه عينا‏.‏ والله أعلم‏.‏

/

 وسئل ـ رحمه الله ـ عمن اكترى دارا لمرضاة نفسه‏.‏ هل يجوز له أن يكري‏؟‏

فأجاب‏:‏

إن اكترى منفعة لفعل محرم؛ مثل الغناء والزنا وشهادة الزور، وقتل المعصوم، كان كراه محرما‏.‏ وكذلك إن أكراها لفعل ما وجب عليه، مثل أن يتعين عليه شهادة بحق، أو فتيا في مسألة، أو قضاء في حكومة، أو جهاد متعين، فإن هذا الكري لا يجوز‏.‏ وإن كان لفعل يختص بأهل القربات؛ كالكري لإقراء القرآن، والعلم، والإمامة، والأذان، والحج عن غيره والجهاد الذي لم يتعين، فهذا فيه خلاف بين العلماء‏.‏ وإن كان الكري لعمل؛ كالخياطة، والنجارة، والبناء، جاز بالاتفاق‏.‏

/ وقال ـ رحمه الله‏:‏

فصل

الاستئجار على منفعة محرمة؛ كالزنا، واللواط، والغناء، وحمل الخمر، وغير ذلك، باطل، لكن إذا استوفي تلك المنفعة ومنع العامل أجرته كان غدرا وظلما أيضا‏.‏

وقد استوفيت مسألة الاستئجار لحمل الخمر في كتاب ‏(‏الصراط المستقيم‏)‏ وبينت أن الصواب منصوص أحمد‏:‏ أنه يقضي له بالأجرة، وأنها لا تطيب له؛ إما كراهة تنزيه، أو تحريم، لكن هذه المسألة فيما كان جنسه مباحا؛ كالحمل، بخلاف الزنا‏.‏ ولا ريب أن مهر البغي خبيث، وحلوان الكاهن خبيث، والحاكم يقضي بعقوبة المستأجر المستوفي للمنفعة المحرمة فتكون عقوبته له عوضا عن الأجر‏.‏

فأما فيما بينه وبين الله، فهل ينبغي له أن يعطيه ذلك‏؟‏ وإن كان لا يحل الأخذ لحق الله‏.‏ فهذا متقوم‏.‏ وإن لم يجب عليه ذلك كان في ذلك درك لحاجته؛ أنه يفعل المحرم، ويعذر، ولا يعاقبه في الآخرة إلا /على فعل المحرم، لا على الغدر والظلم‏.‏

وهذا البحث يتصل بالبحث في أحكام سائر العقود الفاسدة، وقبوضها‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عمن استعمل كتابا مذهبا مكتوبا، وأعطي أجرته، وتسلمه الذي استعمله وجلده، وغاب به أربعين يوما، ثم أتي به إلى الصانع الذي تولي كتابته وتذهيبه، وقال له‏:‏ أعطني ما تسلمته مني من الأجرة، فإني واسطة‏.‏ فهل يجوز له أن يكرهه على رده‏؟‏ وإعادة ما أعطاه من الأجرة‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا استأجره لعمل من الأعمال التي تجوز الإجارة عليها، وأعطاه أجرته، مع توفية المستأجر عمله، لم يجب عليه أن يرد عليه الأجرة، بل إن لم يسم موكله في عقد الإجارة كان ضامنا للأجرة بلا ريب‏.‏ وإن سماه، فهل يكون ضامنا للأجرة‏؟‏ على قولين، هما روايتان عن الإمام أحمد‏.‏

فلو لم يعطه الأجرة كان للأجير أن يطالبه بها، فكيف إذا أعطاه إياها‏؟‏ بل إن كان أعطي الأجرة من مال موكله، وإلا فللوكيل مطالبة الموكل بالأجرة التي أداها عنه‏.‏ والله أعلم‏.‏